فأنا شاب في السابعة والعشرين من عمري.. عشت طفولة عادية بين أبوين طيبين وأخت تصغرني بعامين, وكان أبي موظفا بمصلحة حكومية وأمي ربة بيت طيبة لا تعمل, نعيش في شقة من ثلاث غرف بإيجار قديم في الدور الأرضي في أحد المنازل بحي شعبي..
وكانت حياتنا تمضي كغيرنا من الصغار نذهب إلي المدرسة.. ونرجع فنلعب في الشارع مع الرفاق بعض الوقت ونهرول إلي البيت مع ظهور إبينا عائدا من عمله.. ونلتف حول مائدة الطعام ونستمتع بشرب الشاي بعد الغداء.., ثم نجلس لأداء واجباتنا المدرسية تحت عيون أمنا, ويدخل أبي غرفته لينام.. ثم يصحو فيجلس علي الكنبة التي تقع تحت نافذة الصالة.. يرقب المارة في الشارع أو يخرج إلي المقهي إلي أن تزلزلت حياتنا فجأة بوفاة أبي دون سابقة مرض أو إنذار وهو في أوائل الأربعينيات من عمره.. وأنا في سن العاشرة وأختي في سن الثامنة.., وتكدرت أيامنا.. وران عليها الحزن والاكتئاب.. وافتقدنا أبانا الطيب.. وإحساس الأمان الذي كنا نحس به في وجوده..,
وواجهت أمي الحياة في خوف وساعدها خالي الوحيد علي إنهاء إجراءات المعاش الذي تبين أنه مبلغ ضئيل لقصر فترة خدمة أبي, وعرفنا جفاف الحياة رنقص النقود في سن مبكرة وتوقفنا منذ وفاة أبي عن شراء أي ملابس جديدة, وأصبحنا نرتدي ملابس أبناء خالنا القديمة..
ولما كان هو أيضا موظفا محدود الدخل.. فلقد كان لا يشتري لأبنائه الجديد من الملابس إلا بعد أن تكون ملابسهم قد بليت تماما.. فكانت أمي ترتقها.. وتقلبها.. وتصبغها أحيانا لكي نستطيع ارتداءها..
وبالرغم من ذلك فلقد مضت بنا الأيام.. وكان يكفينا برغم كل العناء والحرمان أن نجتمع حول أمنا كل ليلة في المساء, لنسمع منها ذكرياتها عن أبينا وكيف تعرفت به وكيف تزوجته.. وأحلامه لنا بأن ننجح ونتفوق في دراستنا ونحصل علي شهاداتنا العليا ونعمل بمراكز مرموقة ونتزوج ذات يوم ويصبح لكل منا أسرته السعيدة, لكن حتي هذه الحياة الجافة الآمنة استكثرتها علينا الأقدار فيما يبدو, فبعد قليل بدأت أمي تشكو من الآلام والأوجاع الشديدة, وبدأ خالي يطوف بها علي المستوصفات وبدأت تحتجز في المستشفيات بالأسابيع الطويلة.. فننتقل نحن للإقامة في بيت خالنا الضيق والمزدحم بمن فيه وننام علي الأرض في حجرة الصالون.., ونواجه مشكلة عسيرة في الانتظام في الدراسة والمذاكرة.. وزيارة أمنا.. إلخ..
وبعد عدة شهور من الاضطراب رحلت أمنا الغالية عن الحياة ولحقت بأبينا وأنا في الخامسة عشرة من عمري وأختي في الثالثة عشرة,
وبكيناها حتي جفت دموعنا.. وشعرنا بعد رحيلها بأننا قد أصبحنا في العراء لا شيء يسترنا أو يحمينا من صواعق السماء وبعد فترة الحزن الطويل.. وبعد أن لمسنا نحن أيضا معاناة أسرة خالنا في حياتها تم الاتفاق علي أن نرجع أنا وأختي للإقامة في مسكننا الخالي علي أن يزورنا خالي من حين لآخر, ليطمئن علينا, وقال لنا خالي وهو يداري دمعه إنه لولا ضيق مسكنه ووجود بنات لديه في مثل سني لما رضي أبدا بأن نفارقه ونرجع لبيتنا, وتقبلنا نحن حياتنا باستسلام وبلا غضب من أحد وخففنا عن خالنا حرجه وأحزانه.. وغادرنا هو في أول ليلة لنا وحدنا في شقتنا بعد أن زود مطبخنا ببعض التموين والأطعمة وأعطاني مصروف الاسبوع, وشدد علينا ألا نفتح الباب لأحد في الليل مهما تكن الظروف, وكرر علي كلمته التي راح يرددها لي منذ رحيل أمي, وهي إنني قد صرت رجلا ومسئولا عن حماية أختي وأنني جدير بالقيام بهذه المسئولية ووافقته علي مايقول وأنا أتمني في أعماقي أن أقول له ولماذا تحكم علي أقداري بأن أكون هذا الرجل في سن الخامسة عشرة.. وأمث
الي يلهون في الشوارع ويتمتعون بحماية الأهل وحنانهم.. لكني لم أتكلم.. ولم أعترض لأنه لا ذنب لأحد في ظروفنا..
وبعد إغلاق الباب وراء خالي انفجرت أختي في البكاء.. وراحت تولول وتتساءل: كيف سنعيش.. وماذا سنفعل وحدنا.. ومن يحمينا.. فمطأنتها وهدأت روعها, وقلت لها إن الله سبحانه وتعالي لن يتخلي عنا لأننا لم نرتكب ذنبا ولم نؤذ أحدا وكان أبونا رجلا طيبا يصلي ويصوم وكانت أمنا كذلك.. ونحن أيضا نصلي ونصوم منذ الصغر, وأقسمت لها أنني سأحميها من كل سوء وسأكرس حياتي لرعايتها.. وأننا سنتعاون معا علي مواجهة كل الصعاب ولن ننفضح بين الناس أبدا بإذن الله.
ونظمنا حياتنا بالمصروف الاسبوعي الذي يعطيه لنا خالنا من معاشنا عن أبينا وأصبحنا نرجع للمدرسة. فنتعاون علي إعداد الطعام وتنظيف الشقة والمذاكرة ثم نتلازم طوال الوقت فإذا خرجت لشراء شيء اصطحبت أختي معي, وإذا أرادت هي زيارة صديقة لها اصطحبتها حتي باب بيتها وحددت لها الموعد الذي سأرجع فيه لاصطحابها للبيت وإذا زارتها بعض زميلاتها أغلقت عليهن باب غرفة أمنا.. وجلست علي الكنبة في مجلس أبي حتي تنتهي الزيارة..
وقرب اليتم والوحدة والخوف من كل شيء بيننا, فأصبحنا لا نفترق إلا في ساعات الدراسة.. وكل اسبوع يزورنا خالنا ويطمئن علي أحوالنا أو يدعونا للغداء معه..
واجتزنا عامنا الدراسي الأول بعد وفاة أمنا بصعوبة وفي إجازة الصيف خرجت أبحث عن عمل لأوفر لنا بعض نفقات العام الدراسي الجديد وعرضت نفسي علي صاحب المغسلة القريبة لأعمل لديه في كي الملابس.. لأنه عمل لا يحتاج إلي خبرة طويلة سابقة.. فطلب مني أن أعمل في البداية كصبي يجيء إليه بالملابس من عند العملاء.. وقبلت ذلك دون غضاضة, وأصبحت أطوف علي البيوت أطرق أبوابها وأسأل عن المكوة وأحمل الملابس المكوية لأصحابها.. وأرجع بالأجرة لصاحب المغسلة, وجمعت في نهاية الشهر من البقشيش نحو أربعين جنيها, وسعدت بها وأعطيتها لأختي لتشتري لنفسها بعض احتياجاتها وفاجأني الرجل في نهاية الشهر بأن أعطاني اربعين جنيها أخري وقد كنت أظنه سيعتبر البقشيش اجري الوحيد عن عملي معه.. وانقضت شهور الصيف, وبدأنا العام الدراسي الجديد وانقطعت عن العمل.. لكن ماادخرته من شهور الصيف نفد سريعا وتجهمت الحياة أمامنا.. فعدت لصاحب المغسلة ورجوته أن يسمح لي بالعمل معه4 ساعات كل مساء في كي الملابس ووافق الرجل تقديرا لظروفي, وأصبحت أخرج من المدرسة فأتناول طعامي خطفا مع أختي ثم اهرول إلي المغسلة وأرجع منها في الثامنة مساء فأذاكر دروسي وأجلس مع أختي إلي أن ننام وحصلت علي الثانوية العامة بمجموع متوسط ونصحني خالي بالاكتفاء بهذا القدر من التعليم والبحث عن عمل, لكن أين أجد مثل هذا العمل بالثانوية العامة..
فاستخرت الله وقررت أن أواصل الدراسة مهما تكن العقبات, وشجعتني أختي علي ذلك.. وساعدني أن صاحب المغسلة كان لا يتأخر عني إذا طلبت منه قرضا لأواجه به أي طاريء فيعطيه لي ويقسطه علي من أجري والتحقت بكلية التجارة شعبة المحاسبة..
وواجهت أنا وأختي الحبيبة أياما شديدة العناء.. وكلما ضعفت مقاومة أحدنا شد الآخر من أزره.. وهون عليه وذكره بآمال أبينا وأمنا فينا, ويطول الحديث عن الأزمات الخانقة التي اعتصرتنا طوال سنوات الجامعة, لكن يكفي أن أقول لك إنه لولا أن خالي كان يقتطع الإيجار الشهري من المعاش ومبلغا لفاتورة الكهرباء قبل أن يسلمه لنا لكنا قد فقدنا مأوانا الوحيد ولأمضينا معظم أوقاتنا في الظلام.., وعدا ذلك فلقد كنا نلاطم الحياة وحيدين وتلاطمنا ونتحايل علي تدبير ثمن الكتب أو نستعيرها, لتوفير الرسوم.. وتأمين بعض الملابس المستعملة التي تستر مظهرنا.. وفي ظل هذه الظروف التحقت أختي بكلية البنات وفعلت المستحيل لكي أوفر لها مطالبها وأحافظ لها علي
الحد الأدني من مظهرها.. وحرمت نفسي من الضروريات لكي تجد أجر مواصلاتها للكلية, وذكرتها حين التحقت بالجامعة بأننا أيتام ولا سند لنا في الدنيا سوي عملنا وأخلاقنا وأن علينا أن نحافظ علي سمعتنا أكثر من غيرنا لأن ضعفنا قد يغري بنا الطامعين.. وطمأنتني هي الي أنها تعي ظروفنا جيدا..
ومضت أعوام الجامعة عليها وعلي في عناء شديد.. وفي عامي الجامعي الأخير توسط لي أحد زملاء الكلية ربما لأنه قد لمس رقة حالي وتفوقي في مادة المحاسبة, للعمل بعد الظهر في مكتب للمحاسبة يملكه عمه.. فعملت به مقابل مكافأة صغيرة لا تزيد علي مكافأتي عن العمل في كي الملابس, لكني رحبت بذلك لاكتساب الخبرة, وعسي أن أجد موضعا لقدمي في هذا المجال بعد التخرج.
وفي هذا المكتب التقيت بزميلة متدربة مثلي, علمت فيما بعد أنها من أقارب صاحب المكتب اتخذت مني موقفا عدائيا من البداية ولا أدري لماذا بالرغم من التزامي بالأدب مع الجميع وراحت تستفزني من حين إلي آخر وأنا أحاول بكل جهدي تفاديها حتي لامني زميل آخر علي ضعفي معها, الي أن جاء يوم وفوجئت بها تقول لي في لهجة استفزازية أمام الزملاء: لماذا يبدو مظهرك كالسعاة ولماذا لا تهتم بملابسك.. ألست تقبض مكافأة مثلنا ؟
فتضرج وجهي بالإحمرار وانعقد لساني.. وسمعت زميلي ينهرها فتمالكت نفسي ورجوته ألا يشتبك معها.. وقلت لها بعد جهد جهيد إنني بالفعل أقبض مكافأة مثلها, لكن ظروفي قاسية.. ومادام مظهري يزعجها الي هذا الحد فإنني سوف أريحها منه ومني إلي الأبد, وغادت المكتب راجعا إلي بيتي ورويت لأختي ماحدث فبكت ورجتني ألا أحزن لذلك وسوف يعوضنا الله عما انقطع من رزقنا برزق غيره إن شاء الله.. وأمضيت يومين بلا عمل سوي الدراسة..
وفكرت في العودة إلي المغسلة مرة أخري.. وقبل أن أفعل فوجئت بزميلي الذي ثار من أجلي في المكتب يطرق علي الباب ويدعوني لمقابلة صاحب المكتب, واستقبلني الرجل عاتبا علي تركي العمل دون الرجوع إليه, وطيب خاطري وأكد لي أنه راض عن عملي ويتنبأ لي بمستقبل طيب ويريد مني الاستمرار معه بعد التخرج, ثم أنهي المقابلة بأن أبلغني بأنه قد رفع مكافأتي, ابتداء من هذا الشهر, وأمر بأن تصرف لي كذلك خلال الشهرين اللذين سأنقطع فيهما عن المكتب للاستعداد للامتحان, وشكرته بحرارة ودعوت له بطول العمر والصحة والستر في الدنيا وفي الآخرة, وانصرفت راضيا.
وتغيرت معاملة هذه الفتاة معي إلي النقيض منذ ذلك الحين.. وراحت تعتذر لي عن سابق إساءتها لي وتقول إنها أساءت فهم صمتي وعزلتي وعزوفي عن مشاركة الزملاء في إهتماماتهم, وأرادت أن تزيل الحواجز بيننا فقالت لي إنها من الفرع الفقير في أسرة صاحب المكتب وإنه سمح لها بالعمل في مكتبه كمساعدة لأسرتها.. وبالتالي فإن ظروفها لا تختلف كثيرا عن ظروفي وشكرتها علي كلماتها وتعاملت معها بنفس خالية من الموجدة, فلم تمضي فترة أخري حتي أصبحنا صديقين حميمين.., ولم تمض عدة أسابيع حتي اعترفت لي بحبها وإعجابها بي وبأخلاقي واستقامتي ووجدتني أنا أيضا اعترف بحبي لها واشفاقي عليها في نفس الوقت من ظروفي القاسية.. ولكنها لم تأبه لذلك. وأكدت لي وقوفها إلي جانبي حتي النهاية..وصارحت أختي بما حدث, فوجدتها هي الأخري تشجعني علي الارتباط بها
وتخفف عني الصعاب وتطلب مني ألا أجعل من ظروفنا سببا لحرماني من السعادة التي نحتاج إليها أكثر من غيرنا.
وتخرجت في كليتتي وتخرجت زميلتي وثبت أقدامي في المكتب, أما هي فقد نجح قريبها في تعيينها في شركة استثمارية, وسألتني عن خطتي للمستقبل, فقلت لها إنني لن استطيع الإقدام علي الارتباط الرسمي بها إلا بعد تخرج أختي واطمئناني عليها.. وتحسن ظروفي, وتوقعت أن تثور علي وتنهي علاقتنا, ففوجئت بها تؤكد لي استعداداها لانتظاري بضع سنوات أخري, وتخرجت أختي بتفوق والحمد لله وعملت كمدرسة بعقد في إحدي المدارس الخاصة إلي أن يجيء دورها في التعيين وتحسنت ظروفنا بعض الشيء.. وجاءني ذات يوم من يطرق بابي ويقدم نفسه لي ويطلب يد شقيقتي مني, واستمهلته حتي اعرض الأمر عليها.. فوجدتها مرحبة به, وسألتها عما إذا كان يعرف ظروفنا جيدا فأجابت بالإيجاب وتحريت عنه فوجدته شابا طيبا متدينا ومن أسرة صالحة ويعمل بالتدريس, فحددنا موعدا للخطبة.. وطفرت عيني بالدمع وأنا أري أختي سعيدة من قلبها في ليلة خطبتها وان كنت قد اشفقت عليها من وحدتها في هذه الليلة بلا أب ولا أم ولا أخت ولا شقيق سواي, ولولا وجود خالي وزوجته لشعرت بفراغ الدنيا كلها من حولنا في هذه المناسبة السعيدة.
وخلال عامين كانت شقيقتي قد زفت إلي عريسها بعد معجزات سماوية وتسهيلات إلهية, لإعداد جهازها وسترها في نظر زوجها وأسرته بقدر الإمكان, ولم يزعجني أبدا أنني قد كبلت نفسي بأقساط شهرية لسداد باقي ثمن جهازها المتواضع.. إلي جانب ماتدفعه هي من أقساط..وإنما شعرت بأنني أؤدي واجبي تجاهها وأنفذ وعدي لها بحمايتها حين خلت الدنيا علينا بعد وفاة أمنا.
وبترشيح من صاحب مكتب المحاسبة الفاضل, عملت محاسبا بشركة كبيرة الي جانب استمراري في العمل معه بعد الظهر, ووجدت نفسي بعد أربعة أعوام من التخرج ومع سداد آخر قسط من جهاز أختي قادرا علي الاهتمام بحياتي الخاصة فأبديت رغبتي لفتاتي في التقدم لأهلها.. ووجدت كل شيء معدا ومرتبا من جانبها.. ولم يفاتحني أحد في أي شروط مادية.. وتركت لها هي أن تحدد ماتراه مناسبا في ضوء إمكاناتي التي تعرفها جيدا, وتم كل شيء خلال شهور وجدت الشقة القديمة.. واستقبلت جهاز العروس الجديد.
وفي ليلة الزفاف وعقد القران.. وجدت أختي لا تسعها الفرحة وعلمت من فتاتي أنها ذهبت إليها في الليلة السابقة.. ليلة الحنة حين اجتمعت بعض الصديقات في بيت العروس يغنين ويصفقن ويرقصن وأنها استدرت دمعها رغما عنها بفرحتها الطاغية.. وبحديثها المستمر عني وكيف أنني أبوها وأخوها وأمها وكل شيء لها في الحياة, وكيف أنني شاب طيب وسوف أسعدها لأنني أحبها ولا أحمل في قلبي إلا الحب ولا أعرف الحقد أو الكراهية لأحد.
وفي الحفل البسيط الذي أقمناه في مسكني احتفالا بالزفاف جلست إلي جوار عروسي, وأمامنا الأهل وأختي وزوجها الطيب.. فسرحت بفكري رغما عني إلي الوراء وتذكرت أول ليلة أغلق علينا فيها باب هذه الشقة نفسها وحدنا بعد انصراف خالي وأنا في الخامسة عشرة من عمري وأختي في الثالثة عشرة.. والمستقبل مظلم أمامنا ومجهول.. وخوف الدنيا كله يتجمع في داخلنا.. وإحساسنا بالانكسار والضياع والغلب الأزلي يطغي علي كل مشاعرنا.. وتساءلت: هل كنا في تلك الليلة الكئيبة نتصور أننا سوف نجتاز كل الصعاب التي اعترضت طريقنا ونصل ذات يوم الي بر الأمان فتتخرج شقيقتي وتعمل وتتزوج وأتخرج أنا وأعمل وأتزوج كغيرنا من الشباب ؟ وهل لو كنا توقفنا يومها واستهولنا الطريق الطويل الذي ينبغي لنا أن نقطعه لكي نتغلب علي ظروفنا.. هل كنا وجدنا الشجاعة والقدرة علي السير فيه حتي نهايته ؟ لقد أصبح لكل منا الآن حياته وأسرته وعمله واجتزنا محنتنا بإيماننا بالله سبحانه وتعالي وبأنه لا يتخلي عن الضعفاء والمساكين وعمن يعتصمون بدينهم وخلقهم, وقد كتبت لك رسالتي هذه لكي أقول لقرائك إن لكل عناء نهاية وإنه بالصبر والكفاح والإيمان بالله والتمسك بالدين والأخلاق يعبر الإنسان كل المحن والابتلاءات..
والحمد لله أننا قد عبرنا محنتنا دون أن نخسر أنفسنا أو ننحرف, أو نفقد حبنا للحياة والبشر والخير, أو تتشوه نفوسنا بالحقد والمرارة.. وأرجو أن تقول ذلك لقرائك كما تفعل دائما.. كما أرجو أن تقول لمن يجدون
أنفسهم امام ليل طويل من العناء لايبدو له فجر قريب في نظرهم.
إن الليل مهما يطل فلابد له من نهاية ولابد لكل سائر علي الطريق الطويل أن يصل ذات يوم الي غايته, والمهم هو ألا ييأس الانسان من رحمة ربه.. وألا يتخلي عن مبادئه ودينه ولعلك
لاحظت انني لم اشك في رسالتي من شيء, فاذا كان لابد من الشكوي فلعلي اقول لك هو ان مشكلتنا الوحيدة الآن هما في افتراق اختي عني بعد هذا العمر الطويل من التلازم والامتزاج.. وفي خوفها المرضي علي من اي عارضي يصيبني ولو كان نفحة برد بسيطة, وخوفها المماثل علي زوجها من كل شيء.. وترديدها وانما انها قد احتملت الكثير والكثير ولم تعد لديها ايه طاقة علي أن تفقد أحسدا آخر ذات يوم.. ورغبتها لو استطاعت في أن تشد علي الغطاء كل ليلة لتطمئن الي إنني استمتع بالدفءس.. وزوجتي تحبها كثيرا تتعاطف معها وتتفهم دوافعها.. وقد تكشفت لي هي الأخري عن نبع آخر من الحنان.. والخوف من المستقبل واصبح هاجسي الآن هو ان اطمئن كلا منهما علي ان كل شيء علي مايرام.. وان الله لن يتخلي عنا ابدا باإذن الله.
بريد الجمعة عبد الوهاب مطاوع 2000 نوفمبر 10