أقرأ في بريد الجمعة بعض القصص التي تدعونا للتمسك بالأمل في رحمة الله إلي ما لا نهاية, مهما تشتد الأحزان
والآلام..
وكان من آخر ما قرأت من هذا النوع رسالة اللحظة السحرية التي روت فيها سيدة فاضلة قصتها مع اليأس من الزواج والإنجاب في البداية, ثم مع الأمل الذي تحقق لها من حيث لاتدري ولا تحتسب.. فباتت بفضل من الله في نعمة وهناء ورزقها الله سبحانه وتعالي ثلاثة توائم.. لتنجب خلفة العمر دفعة واحدة, حيث سيتعذر عليها الإنجاب بعد ذلك لأسباب صحية,
ولقد دفعتني هذه الرسالة لأن أروي لك قصة سيدة من قريباتي المقربات تكبرني بعدة سنوات وتحمل شهادة جامعية وتتمتع بجمال أخاذ,
وبالرغم من جمالها فلقد تعثرت خطواتها علي طريق السعادة طويلا إذ تزوجت وهي في العشرين لبضع سنوات ثم طلقت لعدم الإنجاب,
ثم تزوجت من شخص آخر لسنوات أخري وطلقت لنفس السبب.. ونصحها الأطباء بألا تسعي للانجاب مرة أخري لأن طريقه مسدود أمامها ولا أمل لها فيه..
وانطوت السيدة الشابة علي نفسها وراحت تجتر أحزانها وآمالها الحسيرة, فساقت إليها الأقدار مهندسا يكبرها بعشرين عاما كان متزوجا وفشل في زواجه لعدم الإنجاب ولعدم صبر زوجته السابقة عليه, إلي أن يؤتي العلاج ثماره معه, فوجد كل منهما في الآخر ضالته..
وتزوجا وكل منهما مقتنع في أعماقه بألا أمل له في الانجاب.. لكنه لا بأس من الأخذ بالأسباب ولو من باب شغل النفس عن أفكارها وهواجسها بزيارات للأطباء وخضوع للفحوص وإجراء للتحاليل إلخ.. ولأن تخصص الزوج دقيق فقد أتيحت له فرص عديدة للسفر إلي الخارج واصطحب زوجته دائما معه إلي هذه الرحلات, وفي كل رحلة يعرضان نفسيهما علي المراكز المتخصصة في علاج العقم ويجريان الفحوص ويتلقيان العلاج بلا طائل.
ومضت عشر سنوات كاملة علي حياتهما معا علي هذا النحو.. وبعد ذلك لاح لهما ولأول مرة أمل ضعيف في الإنجاب عن طريق الإخصاب الصناعي أو الأنابيب, وكان في ذلك الوقت يقيمان في دولة أوروبية متقدمة فخاضا التجربة وفشلت..
وخاضاها مرة ثانية وفشلت أيضا..
وكرراها للمرة الثالثة فكتب لها النجاح وبدأت بشائر الحمل تظهر علي السيدة وطار الزوجان فرحا.. وترقبا مولودهما السعيد بلهفة من ينتظره بشوق منذ عشرين عاما..
وخطرت لهما فكرة أن يكون مولد الطفل المرتقب في الرحاب الطاهرة.. فسافرا من الدولة الأوروبية إلي الأراضي المقدسة.. وأديا العمرة.. وأقاما في جوار الحرم الشريف ينتظران موعد الولادة إلي أن جاء ووضعت الأم مولودها وقرت به أعين الأب والأم.. وقررا أن يرجعا للاستقرار في مصر.. ويكفا عن التجوال والترحال ليوفرا لابنهما الحياة العائلية الهادئة, ورجعا بالفعل إلي بلدهما وأقام الرجل مشروعا خاصا له الي جانب عمله في تخصصه الدقيق.
ومضت الأيام رخية هانئة إلي أن اقترب عيد ميلاد الابن الوحيد الثامن وبدأ الأبوان يستعدان للاحتفال به وفي عزمهما أن يكون الاحتفال هذا العام أكبر من كل مرة سابقة.
وقبل الموعد المنتظر بيومين خرج الطفل الصغير يلهو بدراجته في الشوارع المحيطة بمسكنه فإذا بسيارة مسرعة تصدم الطفل.. وتقتل الفرحة في حياة أبويه وسعادتهما وتقضي علي كل شيء جميل في دنياهما.
وكان الابتلاء شديدا ياسيدي... فاسودت جدران المسكن وانطفأت أنواره وخيم عليه الظلام والكآبة.
وتجمعنا نحن الأهل والأصحاب نواسي الزوجين ولا يجرؤ أحدنا علي الحديث عن العوض أو الإبدال المذكور في القرآن.. إذ من أين يأتي العوض أو الابدال, وقد كان إنجاب هذا الطفل الفقيد ثمرة جهود استمرت عشرين سنة.. وكان مولده معجزة لا تتكرر.. لهذا فقد دار حديث المواساة كله حول الأبرار الصغار وكيف يشفعون لآبائهم وأمهاتهم عند رب العرش العظيم.. وكيف يراغم الطفل البرئ الملائكة عند باب الجنة لايريد أن يدخلها إلا وفي يده أبوه وأمه, إلخ.
ثم انسحب الجميع وتركوا الزوجين الحزينين لأحزانهما وآلامهما.. وبدأت الزوجة تشكو من الأمراض والآلام الجسدية.. واستشارت طبيبها فأخضعها لفحوص عديدة,
ثم أعلنها بأنها حامل! وصرخت السيدة باكية وظنت أن طبيبها يحاول تخفيف مأساتها عنها بأن يعلقها بأمل مستحيل في الإنجاب, لكي ترتفع معنوياتها وتتخفف من أحزانها وصارحته بذلك, وقالت له إنه من المستحيل أن تحمل مرة أخري, لأن حملها الأول كان معجزة وتم عن طريق الأنابيب بعد عذاب طويل.. فأجابها الطبيب بهدوء إنه لادخل له بما حدث في الماضي.. ولايسمح لنفسه بأن يعلق مريضا بأمل موهوم, حتي ولو كان ذلك بدافع التخفيف عنه, وإنما هو أمام فحوص علمية ونتائج موثوق بها تؤكد له ما يقول, وفي البداية وفي النهاية فإن إرادة الله لا يستعصي عليها شيء.
وانصرفت الزوجة ذاهلة.. وظلت علي ذهولها بضعة أسابيع إلي أن اكتمل الحمل وظهرت عليها أعراضه, وبعد شهور أخري جاء المولود إلي الحياة مصداقا لقوله تعالي فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما81 الكهف, وكان من عجائب صنع الله أن يكون الفارق الزمني بين رحيل الطفل الأول ومجئ الثاني هو تسعة أشهر و15يوما علي وجه التحديد.
وسرعان ما أضيئت أنوار البيت المظلم من جديد.. وتجمعنا حول الزوجين مرة أخري فشتان كان الفارق بين تجمعنا لديهم هذه المرة وبين تجمعنا السابق في منزلهم قبل9 أشهر, ودار الحديث هذه المرة بلا حرج عن العوض والإبدال ورحمة الله بالمحزونين, وأكد لنا الأبوان عزمهما علي مواصلة مشروع دار الأيتام الذي كانا قد بدآه عقب وفاة ولدهما الأول شكرا وحمدا وعرفانا.. ولكيلا ينسيهما تعويض السماء لهما عما انتوياه وهما في غمرة الأحزان..
وباركنا عزمهما.. وأيدناهما فيه.. ورجونا لهما السعادة والأمان.. وإني لأكتب لك اسمي هذين الزوجين ورقم هاتفهما إذا أردت التأكد من وقائع هذه القصة الغريبة, كما أكتب لك اسمي ورقم تليفوني لنفس هذا الغرض. ليس فقط لكيلا يساورك الشك فيما رويته لك.. ولكن أيضا لأن هناك فصلا آخر من فصولها قد يصعب عليك تصديقه. ولهذا فإني أريدك أن تتصل بهذين الزوجين وتتأكد منه.. أما هذا الفصل الأخير فهو أن الله سبحانه وتعالي لم يكتف بتعويضهما وإبدالهما خيرا بمن فقدا.. وإنما أهدي إليهما أيضا طفلا ثانيا.. بعد تسعة أشهر أخري من ميلاد الطفل الذي أعاد لهما الأمل في الحياة..
وجاء هذا الطفل الثاني أيضا بلا عمليات جراحية ولا علاج ولا إخصاب, فأصبح في حديقتهما زهرتان جميلتان عوضا لهما عن الزهرة المفقودة.. وسبحان من إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.. وأرجو أن تزيد هذه القصة من إيمان قرائك بأن رحمة الله قد تجئ في أي وقت لمن يشاء حين يشاء ومن ثقتهم بأن إرادة الله لاتقف دونها الحوائل والسدود. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
ومنذا يساوره أي شك في ذلك يا سيدي؟ إن قدرة الله سبحانه وتعالي لم تكن يوما موضع اختبار.. ورحمته التي وسعت كل شيء لا تضيق بمن يظنون في غمرة اليأس والقنوط ألا مخرج لهم مما يكابدون, غير أننا مأمورون بالصبر علي ما نكره.. والتعلق بالأمل دوما في رحمة الله أن يحقق لنا ذات يوم ما نرجوه لأنفسنا ولو طال بنا الانتظار. ولقد لاحظ بعض المفسرين أن الله سبحانه وتعالي لم يأمر رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه بالاقتداء بأسلافه من الرسل في خلق بذاته إلا في الصبر علي ما لاقوا من شدائد وواجهوه من محن, وأنه سبحانه وتعالي قد قرن أمره لرسوله بالصبر في أكثر من موضع بالقرآن بأمره له أن يسبح بحمد ربه كما في الآية الكريمة واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم الطور48, وقيل في تفسير ذلك إن التسبيح هنا يحمل معنيين جليلين, الأول هو تنزيه الله سبحانه وتعالي عن أن يفعل شيئا عبثا أو أن يصدر عنه ما لايليق بكماله وكرمه وحكمته.. فإذا ابتلي بعض عباده بما يشق عليهم احتماله في حينه فلحكمة يعلمها هو وإن خفيت علي أفهامهم, وأما المعني الآخر فهو أن له سبحانه وتعالي في كل شدة عطاء وفي كل بلية نعمة.. فكأنما نبادر بالتسبيح والحمد في ذروة الشدة عسي أن يعجل الله لنا بالكشف عن عطائه المحجوب وراء هذا الابتلاء علي غرار مايقال عن الألطاف الإلهية التي يقول الواصلون إنها ذلك التدبير الالهي الذي قد يأتينا أحيانا بما نكره ليحقق لنا فيما بعد ما نحب, فيكون اختيار الله لنا حين يجئ أفضل مما اخترناه نحن لأنفسنا.. وأشمل فضلا وكرما. ولا عجب في ذلك إذ ألم تشهد حياة كثيرين منا مواقف معينة بكينا أمامها وأسفنا علي ما فاتنا فيها, وضاقت صدورنا باحتمالها, ثم لم تلبث الأيام أن أثبتت لنا أنها لم تكن سوي مقدمة لخير عميم أراده الله لنا.. وقصرت آمالنا حتي عن التطلع إليه؟ وألم تراودنا في بعض مراحل العمر آمال رغبنا بشدة في أن نحققها لأنفسنا, وشعرنا بالحسرة لعجزنا عن بلوغها, ثم مضت بنا رحلة الحياة فإذا بنا نسلم لأنفسنا بأننا لو كنا قد بلغنا تلك الآمال في حينها, لحالت بيننا وبين ما أرادته لنا السماء فيما بعد من خير أعم وأبقي؟ لهذا المعني نفسه.. قال ابن عطاء الله السكندري في حكمته الشهيرة: لا تطالب ربك بتأخر مطلبك.. ولكن طالب نفسك بتأخر أدبك. يقصد: لا تحاسب ربك عن تأخر تحقيق مطلبك منه.. وإنما حاسب نفسك أنت عن تأخر أدبك في الطلب منه.. أي تأخرك في الاعتماد عليه فيما تريده لنفسك وتأخرك في النهوض إلي الطاعات لكي يحقق لك آمالك وقلة صبرك علي ما تريد منه.. وتعجلك له. فعطاؤه سوف يجئ حين يئن الأوان وليس قبله.. وأفضل العبادة انتظار الفرج. وفي هذه القصة التي رويتها لنا جاء عطاء الإنجاب للزوجين اللذين تلهفا عليه طويلا بعد عشرين عاما من السعي المتصل إليه.. وبعد زيجتين فاشلتين للزوجة وأخري مماثلة للزوج فتأمل رحمة ربك بهما في ألا يطيل عليهما الانتظار هذه المرة حين فقدا زهرتهما الوحيدة ويئس الجميع من كل أمل في التعويض, فلا تمضي أسابيع علي محنتهما حتي يقول لهما ربهما إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا المعارج6 و7, فتحمل الزوجة المذهولة ويرزقهما ربهما بطفل آخر بغير علاج ولا جراحات ولا أنابيب ولا انتظار لسنوات مريرة.. لأنه قد رأي برحمته أن يعجل لهما العزاء والتعويض والإبدال.. وإذ لا تبلغ بهما أقصي آمالهما من ربهما ودعاؤهما إليه بعد ذلك أكثر من أن يحفظ عليهما طفلهما الذي أنعم به عليهما هذا.. ويسعدان به.. يقول لهما ربهما مرة أخري: فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين الحجر97 لأن عطائي بلا حدود.. وكرمي فوق ما يجنح إليه أقصي الخيال, ولا عجب أيضا في ذلك, وهو القائل جل شأنه وإن يردك الله بخير فلا راد لفضله يونس10. فماذا يدعونا إذن إلي التشكك في وقائع هذه القصة ياسيدي, وكل ذلك عليه هين سبحانه وتعالي. إنني أصدق كل ما رويت لنا فيها دون حاجة إلي الاتصال بطرفيها.. وأشكرك علي إطلاعنا عليها ورغبتك الكريمة في أن يستف بها الآخرون والسلام. |
بـريــد الأهــرام,عبد الوهاب مطاوع 41584 السنة 124-العدد 2000 اكتوبر 13 15 من رجب 1421 هـ الجمعة |