وابتلعت ريقي بصعوبة ثم قلت لها بصوت خفيض إن عمري34 عاما.
فقالت إن الأمر لا يختلف كثيرا لأن الفتاة بعد سن الثلاثين تقل خصوبتها كثيرا وهي تريد أن تري أحفادا لها من ابنها.. لا أن تراه هو يطوف بزوجته علي الأطباء جريا وراء الأمل المستحيل في الإنجاب منها.
ولم أجد ماأقوله لها لكني شعرت بغصة شديدة في حلقي.., وانتهت المقابلة وعدت إلي بيتي مكتئبة.. ومنذ تلك اللحظة لم تهدأ والدة خطيبي حتي تم فسخ الخطبة بيني وبينه وأصابني ذلك بصدمة شديدة لأنني كنت قد أحببت خطيبي وتعلقت بأمل السعادة معه.. لكنه لم ينقطع عني بالرغم من فسخ الخطبة, وراح يعدني بأنه سيبذل كل جهده لإقناع والدته بالموافقة علي زواجنا..
واستمر يتصل بي لمدة عام كامل دون أي جديد.. ووجدت أنني في حاجة إلي وقفة مع النفس ومراجعة الموقف كله.. وانتهيت من ذلك إلي قرار ألا أمتهن نفسي أكثر من ذلك وأن أقطع هذه العلاقة نهائيا.. وفعلت ذلك ورفضت الرد علي اتصالات خطيبي السابق.
ومرت ستة أشهر عصيبة من حياتي.. ثم أتيحت لي فرصة السفر لأداء العمرة, فسافرت
لكي أغسل أحزاني في بيت الله الحرام.. وأديت مناسك العمرة.. ولذت بالبيت العتيق وبكيت طويلا ودعوت الله أن يهييء لي من أمري رشدا, وفي أحد الأيام كنت أصلي في الحرم وانتهيت من صلاتي وجلست أتأمل الحياة في سكون فوجدت سيدة إلي جواري تقرأ في مصحفها بصوت جميل.. وسمعتها تردد الآية الكريمة وكان فضل الله عليك عظيما فوجدت دموعي تسيل رغما عني بغزارة, وألتفت إلي هذه السيدة وجذبتني إليها, وراحت تربت علي ظهري بحنان وهي تقرأ لي سورة الضحي إلي أن بلغت الآية الكريمة ولسوف يعطيك ربك فترضي فخيل إلي أنني أسمعها لأول مرة في حياتي مع أني قد رددتها مرارا من قبل في صلاتي.. وهدأت نفسي, وسألتني السيدة الطيبة عن سبب بكائي فرويت لها كل شيء بلا حرج, فقالت ان الله قد يجعل بين كل عسرين يسرا, وإنني الآن في العسر الذي سوف يليه يسر بإذن الله.. وان ماحدث لي كان فضلا من الله لأن في كل بلية نعمة خفية كما يقول العارفون, وشكرنا بشدة علي كلماتها الطيبة ودعوت لها بالستر في الدنيا وفي الآخرة,
وغادرت الحرم عائدة إلي فندقي وأنا أحسن حالا وانتهت فترة العمرة وجاء موعد الرحيل, وركبت الطائرة عائدة إلي القاهرة فجاءت جلستي إلي جوار شاب هاديء الملامح وسمح الوجه, وتبادلنا كلمات التعارف التقليدية.. فوجدتني أستريح إليه واتصل الحديث بيننا طوال الرحلة إلي ان وصلنا إلي القاهرة وانصرف كل منا إلي حال سبيله, وأنهيت إجراءاتي في المطار, وخرجت فوجدت زوج أقرب صديقاتي إلي في صالة الانتظار فهنأني بسلامة العودة وسألته عما جاء به للمطار فأجابني بأنه في انتظار صديق عائد علي نفس الطائرة التي جئت بها. ولم تمض لحظات إلا وجاء هذا الصديق فإذا به هو نفسه جاري في مقاعد الطائرة وتبادلنا التحية
, ثم غادرت المكان بصحبة والدي.. وماأن وصلت إلي البيت وبدلت ملابسي واسترحت بعض الوقت حتي وجدت زوج صديقتي يتصل بي ويقول لي إن صديقه معجب بي بشدة ويرغب في أن يراني في بيت صديقتي في نفس الليلة لأن خير البر عاجله, ثم يسهب بعد ذلك في مدح صديقه والإشادة بفضائله ويقول لي عنه أنه رجل أعمال شاب من أسرة معروفة وعلي خلق ودين ولا يتمني لي من هو أفضل منه لكي يرشحه للارتباط بي.
وخفق قلبي لهذه المفاجأة غير المتوقعة.. واستشرت أبي فيما قاله زوج صديقتي فشجعني علي زيارة صديقتي لعل الله جاعل لي فرجا.
وزرت صديقتي وزوجها والتقيت بجاري في الطائرة واستكملنا التعارف وتبادلنا الإعجاب.. ولم تمض أيام أخري حتي كان قد تقدم لي.. ولم يمض شهر ونصف الشهر بعد هذا اللقاء حتي كنا قد تزوجنا وقلبي يخفق بالأمل في السعادة,
وحديث السيدة الفاضلة في الحرم عن اليسر بعد العسر يتردد في أعماقي. وبدأت حياتي الزوجية متفائلة وسعيدة ووجدت في زوجي كل ماتمنيته لنفسي في الرجل الذي أسكن إليه من حب وحنان وكرم وبر بأهله وأهلي, غير أن الشهور مضت ولم تظهر علي أية علامات الحمل, وشعرت بالقلق خاصة أنني كنت قبد تجاوزت السادسة والثلاثين وطلبت من زوجي أن أجري بعض التحاليل والفحوص خوفا من ألا أستطيع الإنجاب, فضمني إلي صدره وقال لي بحنان غامر إنه لا يهمه من الدنيا سواي.. وإنه ليس مهتما بالإنجاب, لأنه لا يتحمل صخب الأطفال وعناءهم, لكني أصررت علي مطلبي.. وذهبنا إلي طبيب كبير لأمراض النساء وطلب مني إجراء بعض التحاليل, وجاء موعد تسلم نتيجة أول تحليل منها ففوجئت به يقول لي إنه لا داعي لإجراء بقيتها لأنه مبروك يامدام.. أنت حامل! سبحانك ربي
!!!
فلا تسل عن فرحتي وفرحة زوجي بهذا النبأ السعيد..وغادرت عيادة الطبيب وأنا أشد علي يده شاكرة له بحرارة.
وفي ذلك الوقت كان زوجي يستعد للسفر لأداء فريضة الحج, فطلبت منه أن يصطحبني معه لأداء الفريضة وأداء واجب الشكر لمن أنعم علي بهذه النعم الجليلة, ورفض زوجي ذلك بشدة وكذلك طبيبي المعالج لأنني في شهور الحمل الأولي.. لكني أصررت علي مطلبي وقلت لهما ان من خلق هذا الجنين في أحشائي علي غير توقع قادر علي أن يحفظه من كل سوء, واستجاب زوجي لرغبتي بعد استشارة الطبيب واتخاذ بعض الاحتياطات الضرورية وسافرنا للحج وعدت وأنا أفضل مما كنت قبل السفر..
ومضت بقية شهور الحمل في سلام وإن كنت قد عانيت معاناة زائدة بسبب كبر سني, وحرصت خلال الحمل علي ألا أعرف نوع الجنين لأن كل مايأتيني به ربي خير وفضل منه, وكلما شكوت لطبيبي من إحساسي بكبر حجم بطني عن المعتاد فسره لي بأنه يرجع إلي تأخري في الحمل إلي سن السادسة والثلاثين. ثم جاءت اللحظة السحرية المنتظرة وتمت الولادة وبعد أن أفقت دخل علي الطبيب وسألني باسما عن نوع المولود الذي تمنيته لنفسي فأجبته بأنني تمنيت من الله مولودا فقط ولا يهمني نوعه.. ففوجئت به يقول لي: إذن مارأيك في أن يكون لديك الحسن والحسين وفاطمة!
ولم أفهم شيئا وسألته عما يقصده بذلك فإذا به يقول لي وهو يطالبني بالهدوء والتحكم في أعصابي إن الله سبحانه وتعالي قد من علي بثلاثة أطفال, وكأن الله سبحانه وتعالي قد أراد لي أن أنجب خلفة العمر كلها دفعة واحدة رحمة مني بي لكبر سني, وأنه كان يعلم منذ فترة بأنني حامل في توءم لكنه لم يشأ أن يبلغني بذلك لكيلا تتوتر أعصابي خلال شهور الحمل ويزداد خوفي. ولم أسمع بقية كلامه فلقد انفجرت في حالة هستيرية من الضحك والبكاء وترديد عبارات الحمد والشكر لله.. وتذكرت سيدة الحرم الشريف.. والآية الكريمة.. ولسوف يعطيك ربك فترضي.. وهتفت إن الحمد لله.. الذي أرضاني وأسبغ علي أكثر مما حلمت به من نعمته.
أما زوجي الذي كان يزعم لي أنه لا يتحمل صخب الأطفال وعناءهم لكي يهون علي همي بأمري فلقد كاد يفقد رشده حين رأي أطفاله الثلاثة وراح يهذي بكلمات الحمد والشكر لذي الجلال والإكرام حتي خشيت عليه من الانفعال. وأصبح من هذه اللحظة لا يطيق أن يغيب نظره عنهم.
وإنني أكتب إليك رسالتي هذه من أحد الشواطيء, حيث نقضي إجازة سعيدة أنا وزوجي وأطفالي,
ولكي أرجوك أن توجه رسالتي هذه إلي كل فتاة تأخر بها سن الزواج أو سيدة تأخر عنها الإنجاب وتطالبهن بألا يقنطن من رحمة الله.. وألا يقطعن الرجاء في الخالق العظيم وألا يمللن سؤاله والدعاء إليه أن يحقق إليهن آمالهن في الحياة, فلقد كنت أردد دائما دعائي المفضل: ربي إن لم أكن أهلا لبلوغ رحمتك, فرحمتك أهل لأن تبلغني لأنها قد وسعت كل شيء.
وأخيرا فإني أسألك وقراءك صالح الدعاء لي ولزوجي الحنون ولأطفالي والسلام عليكم ورحمة الله تعالي.
بريد الاهرام عبد الوهاب مطاوع
ولكاتبة هذه الرسالةيقول الاستاذ عبد الوهاب مطاوع سئل الإمام الشافعي رضي الله عنه ذات يوم: أيهما أفضل للمؤمن: أن يبتلي أم أن يمكن أي أن يحقق له الله كل مايرجوه لنفسه. فقاله: وهل يكون تمكين إلا بعد ابتلاء ؟ ثم أشار في إجابته علي السؤال إلي قصة سيدنا يوسف عليه السلام وماتعرض له من ابتلاء تلو الابتلاء حتي جاءه الفوز العظيم كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء, وأشار إلي قول يوسف في الآية الكريمة بعد أن مكن له ربه إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين يوسف90. فالتقوي والصبر إذن هما مفتاحا نيل الرجاء وتحقق الأمنيات والتمكين في الدنيا. ونحن جميعا نطلب السعادة لأنفسنا في الحياة.. ونكاد في بعض الأحيان نردد ماقالته الممثلة الفرنسية جولييت في خطابها الشهير الي من أحبته بإخلاص ثلاثين عاما أو تزيد وهو الأديب الفرنسي فيكتور هوجو: لو كان للإنسان ان يشتري سعادته بحياته لأنفقت عمري من زمن بعيد! ولكن من منا يلزم نفسه في سعيه إلي سعادته وتحقيق أحلامه في الحياة, بالتقوي والصبر إلي أن تهبط عليه جوائز السماء للصابرين المتقين ؟ ولاشك في أنك قد صبرت علي الإيلام والإيذاء المعنوي اللذين تعرضت لهما في تجربتك السابقة وقرنت الصبر بالتقوي والالتزام بالقيم الدينية والأخلاقية, فما أسرع ماجاءتك جوائز السماء تتري.., ليس فقط بتحقيق أمنياتك في الزواج والسعادة والإنجاب, وإنما أيضا بما هو أكثر من كل ما رجوت لنفسك وأبعد من كل ماتطاول إليه خيالك ذات يوم.. فكأنما أراد الله سبحانه وتعالي أن يفح من تشككت من قبل في قدرتك علي الإنجاب وكرهت لابنها أن يتعلق بالأمل الضعيف في إنجاب طفل واحد منك, فيقول لها ولأمثالها: إنني أنا الله أقول للشيء كن فيكون وأرزق من أشاء حين أشاء بغير حساب نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين56 يوسف.. فإذا كانت سيدة الحرم المكي الشريف قد حدثتك وهي تسري عنك عن فضل الله الذي قد يتمثل من حيث لا ندري في البلية, فلقد كانت تشير في حديثها إليك عن الألطاف الخفية التي يقول عنها العارفون إنها قد تصاحب الابتلاء حين تجيء إلينا أقدارنا ببعض مانكره تمهيدا لأن تحمل إلينا فيما بعد كل مانحب ونرجو. ولقد جاءك برهان ربك علي أن مابكيت له من فشل تجربتك السابقة في الارتباط, لم يكن كله ابتلاء.. وإنما كان تمهيدا لأن يحقق لك ربك فوق كل ماكنت ترجين بنفسك من سعادة ورجاء, إذ من يستطيع أن يجزم أنك لو كنت قد تزوجت خطيبك السابق كنت ستسعدين به كما تسعدين الآن بحياتك مع زوجك المحب البار بأهله وأهلك والذي تظاهر بعدم رغبته في الإنجاب لكيلا يجرح مشاعرك أو يثير شكوكك في مستقبل حياتك معه. بل ومن يستطيع أن يجزم أنك لو كنت قد تزوجته كنت ستنجبين منه هؤلاء الأطفال الثلاثة الذين أهداهم لك ربك تعويضا لك عن سنوات الصبر والانتظار ؟ إننا نعرف جيدا ان لخصوبة الرجل الأثر الأكبر في تحديد نوع الجنين وعدد الأجنة التي تحملها المرأة, فكيف كانت ستتحقق إذن تلك الألطاف الخفية وتهديك السماء هذه الزهرات الثلاث دفعة واحدة لو كنت قد نلت ماأسفت علي ضياعه منك في حينه. أليس هذا دليلا جديدا علي صدق مقولة الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما: من رضي بحسن اختيار الله له لم يعدل بما اختاره الله له شيئا! لقد اختار لك الله سبحانه وتعالي ياسيدتي, فكان اختياره لك أفضل وأكرم مما اخترت أنت لنفسك من قبل.. وحق عليك الشكر آناء الليل وأطراف النهار, فالشكر حافظ النعم كما يقولون, ولاشك في أنك من الشاكرين المبتهلين إلي ربهم أن يجعلهم أهلا لما أنعم الله به عليهم ويحفظ عليهم نعمته.. فهنيئا لك سعادتك وجوائز السماء التي تضيء حياتك وشكرا لك علي رسالتك الجميلة.
|
|
|
|
|
اللهم اني استغفرك و أتوب إليك