الإهانات تسقط على قاذفها قبل أن تصل إلى مرماها البعيد. وهذا المعنى يفسر لنا حلم ` هود ` وهو يستمع إلى إجابة قومه بعد ما دعاهم إلى توحيد ا لله قالوا: “إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين”. إن شتائم هؤلاء الجهال لم يطش لها حلم ` هود ` لأن الشقة بعيدة بين رجل اصطفاه الله رسولا ٬ فهو فى الذؤابة من الخير والبر ٬ وبين قوم سفهوا أنفسهم
وقالوا: ما قرن شىء أزين من حلم إلى علم ٬ ومن عفو إلى قدرة!!. وقال الحسن: المؤمن حليم لا يجهل وان جهل عليه. وتلا قوله تعالى : “وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما”
إن الغضب مس ٬ يسرى فى النفس كما تسرى الكهرباء فى البدن. قد ينشىء رعدة شاملة واضطرابا مذهلا ٬ وقد يشتد التيار فيصعق صاحبه ويقضى عليه. ولذلك يرى ` ديل كارنيجى ` أن التحلم مع الأعداء رحمة تلحق بالنفس قبل أن ينال الغير خيرها ويدركه بردها وبرها.. وهو ينقل لنا فقرة من منشور وزعته إدارة الشرطة بإحدى مدن أمريكا ٬ وهى فقرة تستحق التنويه: “إذا سولت لقوم أنفسهم أن يسيئوا إليك ٬ فامح من نفسك ذكراهم ٬ ولا تحاول الاقتصاص منهم ٬ إنك إذ تبيت نية الانتقام تؤذى نفسك أكثر مما تؤذيهم!!”. ثم يتساءل: “كيف تؤذيك محاولة القصاص؟. إنها قد تُودى بصحتك ٬ كما ذكرت مجلة ` لايف `: أن أبرز ما يميز الذين يعانون ضغط الدم هو سرعة انفعالهم ٬ واستجابتهم لدواعى الغيظ والحقد”. قال: “وأصيبت إحدى معارفى بداء القلب ٬ فكان كل ما نصحه بها الأطباء ألا تدع للغضب سبيلا إليها مهما بلغ الخطب ٬ فإن المريض بقلبه قد تكفى لحفر قبره غضبة واحدة
قال ` ديل كارنيجى` : “نصبنا مُخيَّما ذات ليلة تجاه حرش متكاثف الأشجار ٬ وفجأة برز لنا وحش الغاب المخيف: الدب الأسود. وتسلل الدب إلى ظلال الضوء المنبعث من معسكرنا ٬ وراح يلتهم بقايا طعام يبدو أن خدم أحد الفنادق المقامة فى أطراف الغابة ألقاها هناك... وفى ذلك الوقت كان ` الماجور ما نتريل ` أحد رواد الغابات المغامرين يمتطى صهوة جواده ٬ ويقص علينا أعجب القصص عن الدببة ٬ فكان مما قاله: إن الدب الأسود يسعه أن يقهر أى حيوان آخر يعيش فى العالم الغربى باستثناء الثور على وجه الاحتمال. غير أنى لاحظت فى تلك الليلة أن حيوانا ضئيلا ضعيفا استطاع أن يخرج من مكمنه فى الغابة وأن يواجه الدب غير هياب. ولا وجل. بل أن يشاركه الطعام أيضا ٬ ذلك هو ` النمس `.
ولا ريب أن الدب يعلم أن ضربة واحدة من مخلبه القوى تمحو ` النمس ` من الوجود ٬ فلماذا لم يفعل هذا. لأنه تعلَّم بالتجربة أن مغاضبة مثل هذا الحيوان الضئيل عداوة لن تعود بالضرر إلا عليه هو ٬ فأكرم له وأليق بكبريائه أن يغض الطرف عنه. ولقد تعلمت هذا أنا أيضا ٬ فطالما ضيقت الخناق على آدميين من طراز هذا `النمس` ٬
فعلمتنى التجربة المرة أن اجتلاب عداوة هؤلاء لا تجدى فتيلا
“حدث فى أثناء الحرب الأهلية الأمريكية عندما كان أصدقاء `لنكولن ` يحملون حملات شعواء على أعدائهم أن قال ` لنكولن`مهدئا أتباعه: إن لديكم إحساسا بالغضب والثورة أكثر مما لدى ٬ وقد أكون خلقت هكذا ٬ ولكنى لا أرى الغضب يجدى . إن المرء لا ينبغى أن يضيع نصف حياته فى المشاحنات ٬ ولو أن أحدا من أعدائى انقطع عن مهاجمتى ما فكرت لحظة واحدة فى عدائه القديم لى
هذه الكلمات التى نضجت بها قلوب كبيرة تذكرنا بموقف رجل من أئمة الفقه الإسلامى ٬ حاولت الحكومة فى عهده أن تحمله على اعتناق رأى دينى لها فأبى الرجل أن يعتنق هذا الخطأ ٬ ورأت الحكومة أن تستعين على إقناعه بالجلد والتنكيل والسجن الطويل ٬ ومع ذلك فقد صبر الرجل على بلائه ورفض أن يبيع عقيدته فى أهواء المبتدعين ٬ ورغبات الجبارين. فلما يئسوا منه وظنوا أن أجله قد اقترب لهول ما نزل به ردوه إلى بيته. قال ابن كثير: وجاء الأطباء إلى الإمام المعذب ٬ فقطعوا لحما ميتا من جسده وجعلوا يداوونه حتى عاد إليه روحه الذى كاد يزهق ٬ فلما شفاه الله بقى مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد. أتدرى ما كان موقفه بعد؟. جعل كل من آذاه فى حل إلا أهل البدع ٬ وكان يتلو قوله عز وجل: “وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم” . يقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك ٬ وقد قال الله : “فمن عفا وأصلح فأجره على الله” . وينادى المنادى يوم القيامة `ليقم من أجره على الله ٬ فلا يقوم إلا من عفا` . وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ` إذا جمع الله الخلائق نادى مناد: أين أهل الفضل؟ قال فيقوم ناسوهم يسيرفينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة ٬ فيقولون: وما فضلكم؟ ٬ فيقولون: كنا إذا ظلمنا صبرنا ٬ وإذا أسىء إلينا حملنا. فيقال لهم أدخلوا الجنة فنعم أجر العاملين `. تلك خلال السماحة والتجاوز كما يثبتها التاريخ لآلها الأكرمين فى المشارق والمغارب. وما أقلهم على كثرة الناس
جدد حياتك محمد
الغزالى