جاء في الصحيحين من رواية ابن عباس لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال: {وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب }^ وفي السنن في الحديث الحسن قال صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة لا ترد دعوتهم: -ومنهم- والمظلوم يرفع الله دعوته فوق الغمام، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين }^.
سجن هارون الرشيد أبا العتاهية الشاعر وكان مظلوماً فأرسل له رقعة يقول فيها:
فأخرجه وبكى هارون الرشيد من هذه الرقعة.
أتى ابن هاني الشاعر الفاجر الأندلسي فقال لأحد السلاطين:
سبحان الله!
فابتلاه الله بمرض -فعقوبة الظالم تقع في الدنيا- حتى كان يتململ ويعوي وينبح كالكلب على فراشه وأخذ يبكي ويخاطب رب العزة ويقول:
وهذا جزاء من ظلم عباد الله.
ذكر ابن كثير والذهبي في السير أن أحد السلاطين قدم عليه عالم من العلماء، فتقدم هذا العالم فقال كلمة الحق عند هذا السلطان، وقد صح بذلك الحديث: {أفضل الحهاد كلمة حق عند سلطان جائر }^ والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان ظالم فقال كلمة حق فقتله }^ فقام هذا العالم أمام هذا السلطان، فتكلم أمامه، فغضب السلطان فضربه على وجهه كفاً حتى أجلسه، فقال العالم: قطع الله يدك، فما مضى عليه شهر إلا وأخذ وعزر وقطعت يده وعلقت بباب الطاق في مدخل بغداد .
وذكر الذهبي وابن كثير في ترجمة ابن الزيات الوزير العباسي الذي شارك في الحلف الابتداعي ضد إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل صاحب التوجيه والتربية والهدى المستقيم، فكان ابن الزيات يستهزئ بتعاليم أهل السنة وشارك في سجن الإمام أحمد ، فكان الإمام يدعو في الثلث الأخير من الليل ويرفع يده إلى الحي القيوم على ابن الزيات يقول: اللهم احبسه في جسمه، قال الذهبي : فأصيب ابن الزيات في جسمه فشلَّ جسمه وأدخله الواثق في فرن وعذبه فأخذ يزوره علماء أهل السنة بعد موت الإمام أحمد ، قالوا: والله ما زرناك عواداً ولكن أتيناك شامتين، أتينا نشمت بك، يا أيها المبتدع الضال، يا رأس العمالة والضلالة، لقد أصابتك دعوة إمام أهل السنة والجماعة .
وأما أحمد بن أبي دؤاد القاضي المبتدع، الذي يقول عنه الذهبي : أحمدنا: أحمد بن حنبل وأحمد أهل البدعة: أحمد بن أبي دؤاد القاضي والوزير الكبير، فدعا عليه الإمام أحمد أن يعطيه الله أول جزاءه في الدنيا، فشل نصفه والنصف الآخر بقي مرتعشاً يقول: والله لو قرض نصفي بالمقاريض ما أحسست، ولو وقع الذباب على النصف الآخر لكأن القيامة قامت عليّ.
إن الظلم شأنه عظيم يوم يظلم الظالم فلا يجد له ناصراً ولا ولياً من دون الله، والظلمة على مر التاريخ كثيرون، ومن أعظم من ظلم أهل المبادئ والأسس وأهل الأهداف والدعوات، وعلى رأس القائمة سعيد بن المسيب ، طالب منه بنو أمية أن يبايعهم ليكون الملك وراثياً فرفض وقام في وجه هذا، وأنكر البدع المضللات في المدينة ، فجلد مائة جلدة، على ماذا؟ وحمل على جمل وطيف به في المدينة عجيب!! أسعيد بن المسيب سعيد الزهد والحديث والعبادة يحمل على جمل؟! أفجر أم سرق أم شرب الخمر؟! أسكر وانتهك المحرمات؟! لا والله. حمل على جمل وطيف به في المدينة .
فبقي اسمه مسجلاً في سجل الخالدين وورثة الأنبياء والرسل.
ومن الظلم الذي تعرض له أرباب الدعوات الأصيلة والأهداف الجليلة: سعيد بن جبير ما أخذ مالاً ولا سفك دماً ولا اعتدى على فرج حرام، ولا انتهك المحرمات، لكنه يريد أن تبقى لا إله إلا الله محمد رسول الله عالية فوق الرءوس، استدعاه الحجاج ، واسمعوا للمناظرة الحارة بين هذا العالم والفاجر السفاك الحجاج .
يقول الذهبي في ترجمة الحجاج : نبغضه ونعتقد أن بغضه من أوثق عرى الدين، يقول في السير : له حسنات لكن انغمرت حسناته في بحار سيئاته.
وذكر في تحفة الأحوذي للمباركفوري المناظرة الحارة بين هذا العالم وهذا السفاك، فقال: دخل سعيد بن جبير على الحجاج فقال له: ما اسمك؟ سبحان الله! لا تعرف اسم سعيد بن جبير الذي تلألأ به البخاري ومسلم ، والترمذي وأبو داود والمسند ؟! لا تعرف اسماء الخالدين الذين سجلت أسماؤهم في صفحات من نور في الصدور؟!
قال: ما اسمك؟
قال: اسمي سعيد بن جبير .
قال: بل أنت شقي بن كسير.
قال: هكذا سمتني أمي.
قال: شقيت أنت وشقيت أمك.
قال: الشقي من شقي في بطن أمه.
قال الحجاج : والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى.
قال سعيد : لو كان ذلك عندك لاتخذتك إلهاً من دون الله.
قال الحجاج : علي بالعود، فأتي بعود وجارية فضرب العود والناي في مجالس اللاهين اللاغين الذين لا يعرفون القرآن ولا يعرفون حدثنا، ولا يعرفون الكلام الذي يرسخ في القلوب ويغرس في النفوس، غنت الجارية واندفعت تغني والعود يضرب فبكى سعيد قال الحجاج : أهو الطرب؟
قال: لا والله. ليس بالطرب، لكن جارية سخرت في غير ما خلقت له، سبحان الله! الجارية خلقت لتعبد الله فسخرت للغناء، وعود قطع من شجرة في غير ما خلق له.
قال الحجاج : عليّ بالذهب والفضة، فأتي بالذهب والفضة فنثر بين يدي سعيد ، أسعيد بن جبير يريد ذهباً وفضة؟ أيريد دراهم ودنانير؟ لا. إنه يريد رضا الله وجنة عرضها السموات والأرض، فنثر الذهب والفضة، وقال: خذ من هذا.
قال سعيد : يا حجاج ! إن كنت أخذت هذا لتتقي به من غضب الله ومن نار أعدها الله لأعدائه، فقد والله أحسنت، وإن كنت أخذته للدنيا فهو متاع قليل، عما قليل يفارقك وتفارقه.
قال الحجاج : يا سعيد ! اختر أي قتلة تريد، فوالله لأقتلنك قتلة ما قتلها أحد من الناس.
قال سعيد : -وهو يتبسم- يا حجاج ! اختر لنفسك أي قتلة تريد أن تقتلني، فوالله الذي لا إله إلا هو لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها يوم القيامة.
قال الحجاج : خذوه إلى غير القبلة.
قال سعيد : فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]^.
قال: أنزلوه إلى الأرض.
قال: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [طه:55]^.
قال: اذبحوه.
قال: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، اللهم لا تسلط الحجاج على أحد بعدي.
سمع أهل الإسلام بمقتل سعيد بن جبير فاهتزت الدنيا، وقامت المساجد تصلي عليه، مولى من الموالي لكنه صاحب علم وزهد وعبادة وتوهج وتربية، وقيام ليل وإخلاص، فلما قتل قام الحسن البصري أو غيره فاستقبل القبلة، وقال: يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج ، يا قاصم الجبابرة! اقصم الحجاج ، يا قاصم الجبابرة! اقصم الحجاج ، فأخذ الحجاج بعد مقتل سعيد بن جبير شهراً يخور كما يخور الثور، يقول: والله ما مرت عليّ ليلة من الليالي إلا كأني أسبح في دمه، والله ما مر عليّ ليلة إلا كأن القيامة قامت، وقد رأيت عرش الله بارزاً للناس، وقد قتلني بكل إنسان مسلم قتلته مرة إلا سعيد بن جبير فقد أوقفني الله على الصراط فقتلني به سبعين مرة.
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [إبراهيم:42-47]^.
الظلم ظلمات يوم القيامة، وقد حدث الظلم في تاريخ الإنسان، قال ابن تيمية : إن الله ينصر من يعدل ولو كان كافراً، وإن الله يخذل من يظلم ولو كان مؤمناً، والظلم ظلمات بعضها فوق بعض، يقول المتنبي ولكن لا نوافقه:
للشيخ الدكتور عائض القرني